فصل: بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ السَّادِسَةِ وَالْعِشْرِينَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الناسخ والمنسوخ



.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ وَالْعِشْرِينَ:

قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] الْآيَةَ.
فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ هِيَ نَاسِخَةٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مُدَّةٍ، وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بُرْهَةً يُطَلِّقُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مَا شَاءَ مِنَ الطَّلَاقِ فَإِذَا كَادَتْ تَحِلُّ مِنْ طَلَاقِهَا رَاجَعَهَا مَا شَاءَ فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَإِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ مُرَاجَعَتُهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] أَيِ الطَّلَاقُ الَّذِي تَمْلِكُ مَعَهُ الرَّجْعَةَ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عُرْوَةَ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ: قُرِئَ عَلَى عَبْد اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ أَبِي الْأَزْهَرِ، قَالَ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] قَالَ: فَنَسَخَ هَذَا مَا كَانَ قَبْلَهُ فَجَعَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ حَدَّ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا وَجَعَلَ لَهُ الرَّجْعَةَ مَا لَمْ يُطَلِّقْ ثَلَاثًا.
فَهَذَا قَوْلٌ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَافْتَرَقَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ عَلَى ثَلَاثِ جِهَاتٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يَنْبَغِي لِلرِّجَالِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا إِلَّا اثْنَتَيْنِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ الثَّالِثَةَ بَعْدُ وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ إِنْ شَاءَ وَاحِدَةً وَإِنْ شَاءَ اثْنَتَيْنِ وَإِنْ شَاءَ ثَلَاثًا وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ طُهْرٍ طَلْقَةً وَاحِدَةً وَيُحْتَجُّ لِصَاحِبِ هَذَا الْقَوْلِ: بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ وَكَانَتِ السُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ كُلِّ طَلْقَتَيْنِ حَيْضَةٌ فَلَوْ طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ ثُمَّ رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَةَ وَقَعَتْ تَطْلِيقَتَانِ بَيْنَهُمَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا خِلَافُ السُّنَّةِ فَلِهَذَا أَمَرَ أَنْ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ وَمِنَ الْحُجَّةِ أَيْضًا {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] لِأَنَّ مَرَّتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى التَّفْرِيقِ كَذَا هُوَ فِي اللُّغَةِ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَدْ تَقُولُ سِيرَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ تَجْعَلُهُ لِلدَّهْرِ أَيْ ظَرْفًا فَسِيبَوَيْهِ يَجْعَلُ مَرَّتَيْنِ ظَرْفًا فَالتَّقْدِيرُ أَوْقَاتُ الطَّلَاقِ مَرَّتَانِ.
وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، قَالَ أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ سُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، أَنَّ رَجُلًا، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْمَعُ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ؟ قَالَ: «التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنْسُوخُ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ فِي مُخَالَفَةِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي الصَّهْبَاءِ سَأَلْتُ بَكْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيَّ عَنِ الرَّجُلِ تُرِيدُ امْرَأَتَهُ أَنْ تُخَالِعَهُ، فَقَالَ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا قُلْتُ فَأَيْنَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ {فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} قَالَ نُسِخَتْ، قُلْتُ: فَأَيْنَ جُعِلَتْ؟ قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 20] وَالْآيَةُ الْأُخْرَى.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ خَارِجٌ عَنِ الْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ رَافِعَةً لِلْأُخْرَى فَيَقَعُ النَّسْخُ لِأَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَزَّ {فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} لَيْسَ بِمُزَالٍ بِتِلْكَ لِأَنَّهُمَا إِذَا خَافَا هَذَا لَمْ يَدْخُلِ الزَّوْجُ فِي {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء: 20] لِأَنَّ هَذَا لِلرِّجَالِ خَاصَّةً وَمِنَ الشُّذُوذِ فِي هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَالْحَسَنِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ الْخُلْعُ إِلَّا بِأَمْرِ السُّلْطَانِ قَالَ شُعْبَةُ قُلْتُ لِقَتَادَةَ عَمَّنْ أَخَذَ الْحَسَنُ الْخُلْعَ إِلَى السُّلْطَانِ قَالَ عَنْ زِيَادٍ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهُوَ صَحِيحٌ مَعْرُوفٌ عَنْ زِيَادٍ وَلَا مَعْنَى لِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا خَالَعَ امْرَأَتَهُ فَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا يَتَرَاضَيَانِ بِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبِرَهُ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: هُوَ إِلَى السُّلْطَانِ وَمَعَ هَذَا فَقَوْلُ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرِ التَّابِعِينَ إِنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ السُّلْطَانِ فَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَابْنُ عُمَرَ.
كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَيَّانَ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، قَالَ أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّهُ سَمِعَ الرُّبَيِّعَ ابْنَةَ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ، تُخْبِرُ عَبْد اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا فِي عَهْدِ عُثْمَانَ فَجَاءَ عَمُّهَا مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ إِنَّ ابْنَةَ مُعَوِّذٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا أَفَتَنْتَقِلُ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: لِتَنْتَقِلْ وَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَلَكِنْ لَا تُنْكَحُ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ بِهَا حَمْلٌ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: عُثْمَانُ خَيْرُنَا وَأَعْلَمُنَا.
وَفِي حَدِيثِ أَيُّوبَ، وعُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُثْمَانَ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَحْكَامٌ وَعُلُومٌ فَمِنْهَا أَنَّ عُثْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَجَازَ الْخُلْعَ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَجَازَهُ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ السُّلْطَانِ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ زِيَادٌ وَجَعَلَهُ طَلَاقًا عَلَى خِلَافِ مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَجَازَهُ بِالْمَالِ وَلَمْ يُسْأَلْ أَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ صَدَاقِهَا أَمْ أَقَلُّ عَلَى خِلَافِ مَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إِنَّ الْخُلْعَ لَا يَجُوزُ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَاقَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّدَاقِ وَأَجَازَ لِلْمُخْتَلِعَةِ أَنْ تَنْتَقِلَ وَجَعَلَهَا خِلَافَ الْمُطَلَّقَةِ وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهَا عِدَّةً كَالْمُطَلَّقَةِ وَقَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ قَالَ: وَلَيْسَ عَلَى الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةٌ وَإِنَّمَا عَلَيْهَا الِاسْتِبْرَاءُ بِحَيْضَةٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَا اخْتِلَافٍ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ اخْتِلَافٌ فَلَمَّا جَاءَ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَقُلْ بِغَيْرِهِ وَلَا سِيَّمَا وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ.
فأما عَنْ غَيْرِهِمْ فَكَثِيرٌ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْد اللَّهِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، ومَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ أَنَّهُ أَوْجَبَ أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ أَمْلَكُ بِنَفْسِهَا لَا تَتَزَوَّجُ إِلَّا بِرِضَاهَا وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا وَاحِدَةً.
وفيه أَنَّهَا لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى وَأَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةٍ.
وفيه أَنَّهَا لَا تُنْكَحُ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً.
وفيه أَنَّ عَبْد اللَّهِ بْنَ عُمَرَ خَبَّرَ أَنَّ عُثْمَانَ خَيْرٌ وَأَعْلَمُ مِنْ كُلِّ مَنْ وُلِّيَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَحَدَّثْنَاهُ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِي، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُسٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، جَمَعَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَتَيْنِ وَخَالَعَهَا. وَهَذَا قَوْلٌ شَاذٌّ خَارِجٌ عَنِ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا كَانَ كَذَا فَوَقَعَتِ الصِّفَةُ طُلِّقَتْ بِإِجْمَاعٍ فَكَيْفَ يَكُونُ إِذَا أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا وَطَلَّقَ بِصِفَةٍ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ فَهَذَا مُحَالٌ فِي الْمَعْقُولِ، وَطَاوُسٌ وَإِنْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا فَعِنْدَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنَاكِيرُ يُخَالَفُ عَلَيْهَا وَلَا يَقْبَلُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْهَا أَنَّهُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِنَّمَا يَلْزَمُهُ وَاحِدَةٌ وَلَا يُعْرَفُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا مِنْ رِوَايَتِهِ وَالصَّحِيحُ عَنْهُ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا ثَلَاثٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230] أَيِ الثَّالِثَةُ.
فأما الْعِلَّةُ الَّتِي رُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُخْتَلِعَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَقَعَ الْخُلْعُ بَيْنَ طَلَاقَيْنِ، قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ثُمَّ ذَكَرَ الْمُخْتَلِعَةَ فَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَزَّ {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] كَلَامٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا فَكَانَ هَذَا حُكْمًا مُسْتَأْنَفًا ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] فَرَجَعَ إِلَى الْأَوَّلِ وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ تَكُنِ الْمُخْتَلِعَةُ إِلَّا مَنْ طُلِّقَتْ تَطْلِيقَتَيْنِ فَهَذَا مَا لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ وَمَثَلُ هَذَا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ} قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا بَيِّنٌ فِي النَّحْوِ وَفِي الْآيَةِ مِنَ اللُّغَةِ وَقَدْ ذَكَرَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ نَصًّا فَقَالَ الْمُخْتَلِعَةُ الَّتِي اخْتَلَعَتْ مِنْ كُلِّ مَالِهَا وَالْمُفْتَدِيَةُ الَّتِي افْتَدَتْ بِبَعْضِ مَالِهَا وَالْمُبَارِئَةُ الَّتِي بَارَأَتْ زَوْجَهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَقَالَتْ: قَدْ أَبْرَأْتُكَ فَبَارِئْنِي قَالَ: وَكُلُّ هَذَا سَوَاءٌ وَهَذَا صَحِيحٌ فِي اللُّغَةِ وَقَدْ يَدْخُلُ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ فَيُقَالُ مُخْتَلِعَةٌ وَإِنْ دَفَعَتْ بَعْضَ مَالِهَا فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ نَفْسَهَا مِنْ زَوْجِهَا وَكَذَا الْمُفْتَدِيَةُ وَإِنِ افْتَدَتْ بِكُلِّ مَالِهَا.
فأما قَوْلُ مَنْ قَالَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَخْتَلِعَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَاقَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّدَاقِ فَشَيْءٌ لَا تُوجِبُهُ الْآيَةُ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وَلَيْسَ فِي التِّلَاوَةِ {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] مِنْ ذَلِكَ وَلَا مِنْهُ فَيَصِحُّ مَا قَالُوا عَلَى أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَا يَجُوزُ الْخُلْعُ إِلَّا بِأَقَلَّ مِنَ الصَّدَاقِ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ مَنْ أَخَذَ الصَّدَاقَ كُلَّهُ فَلَمْ يُسَرِّحْ بِإِحْسَانٍ. وَقَدْ أُدْخِلَتِ الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ قَالَ ذَلِكَ مَالِكُ بْنَ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ:

قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233].
فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هِيَ مَنْسُوخَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ لَهُمْ فِيهَا سِتَّةُ أَجْوِبَةٍ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] أَلَّا يُضَارَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْوَارِثُ عَصَبَةُ الْأَبِ عَلَيْهِمُ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَى وَارِثِ الْمُرْضِعِ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ وَعَلَى الْوَارِثِ أَيِ الصَّبِيِّ نَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْوَارِثُ الْبَاقِي مِنَ الْأَبَوَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْوَارِثُ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَنَحْنُ نَنْسُبُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ إِلَى قَائِلِيهَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَنَشْرَحُهَا لِتَكْمُلَ الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ حَكَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ فِي الْأَسَدِيَّةِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَلْزَمُ الرَّجُلَ نَفَقَةُ أَخٍ وَلَا ذِي قَرَابَةٍ وَلَا ذِي رَحِمٍ مِنْهُ قَالَ: وَقَوْلُ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] هُوَ مَنْسُوخٌ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: هَذَا لَفْظُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا النَّاسِخُ لَهَا وَلَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ.
وَمَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ أَنَّ الْمَعْنَى {وَعَلَى الْوَارِثِ} [البقرة: 233] أَنْ لَا يُضَارُّ والَّذِينَ قَالُوا عَلَى وَارِثِ الْأَبِ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ كَمَا قُرِئَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ يوسُفَ بْنِ مُوسَى، قَالَ حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ عُمَرَ، أَجْبَرَ بَنِي عَمٍّ عَلَى مَنْفُوسٍ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ وَقَالَ الْحَسَنُ إِذَا خَلَّفَ أُمَّهُ وَعَمَّهُ الْأُمُّ مُوسِرَةٌ وَالْعَمُّ مُعْسِرٌ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْعَمِّ. وَالَّذِينَ قَالُوا: وَعَلَى وَارِثِ الْمَوْلُودِ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: إِذَا خَلَّفَ أُمًّا وَعَمًّا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَقَالَ قَتَادَةُ عَلَى وَارِثِ الصَّبِيِّ عَلَى قَدْرَ مِيرَاثِهِمْ. وَقَالَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ الْوَارِثُ الصَّبِيُّ كَمَا قُرِئَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ يوسُفَ بْنِ مُوسَى، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ، قَالَ أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ، قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] قَالَ: الْوَارِثُ الصَّبِيُّ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: إِذَا كَانَ لِلصَّبِيِّ أُمٌّ وَعَمٌّ أَجْبَرْتُ الْأُمَّ عَلَى رَضَاعَةٍ وَلَمْ يُطَالِبِ الْعَمَّ بِشَيْءٍ.
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا عَلَى كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذِهِ جَمِيعُ الْأَقْوَالِ الَّتِي وَصَفْنَاهَا مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ.
فأما قَوْلُ مَالِكٍ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فَلَمْ يُبَيِّنُهُ وَلَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ بَيَّنَ ذَلِكَ وَالَّذِي يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ لَهَا عِنْدَهُ وَاللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: أَعْلَمُ أَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مِنْ مَالِ الْمُتَوَفَّى نَفَقَةَ حَوْلٍ وَالسُّكْنَى ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ وَرَفَعَهُ نُسِخَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ الْوَارِثِ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] أَنْ لَا يُضَارَّ فَقَوْلٌ حَسَنٌ لِأَنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ مَحْظُورَةٌ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ عَلَى وَرَثَةِ الْأَبِ فَالْحُجَّةُ لَهُ أَنَّ النَّفَقَةَ كَانَتْ عَلَى الْأَبِ فَوَرَثَتُهُ أَوْلَى مِنْ وَرَثَةِ الِابْنِ.
وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ عَلَى وَرَثَةِ الِابْنِ فَيَقُولُ: كَمَا يَرِثُونَهُ يَقُومُونَ بِهِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ يَخْتَارُ قَوْلَ مَنْ قَالَ الْوَارِثُ هَاهُنَا الِابْنُ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ قَوْلًا غَرِيبًا فَالْإِسْنَادُ بِهِ صَحِيحٌ وَالْحُجَّةُ بِهِ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّ مَالَهُ أَوْلَى بِهِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ أَنَّ رَجُلًا لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ طِفْلٌ وَلِلْوَلَدِ مَالٌ وَالْأَبُّ مُوسِرٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْأَبِ نَفَقَةٌ وَلَا رَضَاعٌ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ فَإِنْ قِيلَ قَدْ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] قِيلَ هَذَا الضَّمِيرُ لِلْمُؤَنَّثِ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ حِذًا لِلْآيَةِ مُبَيِّنٌ لَهَا لَا يَسَعُ مُسْلِمًا الْخُرُوجُ عَنْهُ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنَ الْأَبَوَيْنِ فَحُجَّتُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأُمِّ تَضْيِيعُ وَلَدِهَا وَقَدْ مَاتَ مَنْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا وَعَلَيْهِ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ عَلَى كُلِّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ فَحُجَّتُهُ أَنَّ عَلَىَ الرَّجُلِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى كُلِّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ إِذَا كَانَ فَقِيرًا.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَقَدْ عُورِضَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَلَا مِنْ إِجْمَاعٍ وَلَا مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ بَلْ لَا يُعْرَفُ مِنْ قَوْلٍ سِوَى مَنْ ذَكَرْنَاهُ.
فأما الْقُرْآنُ فَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] فَتَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فِيهِ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْوَارِثِ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ فَقَدْ خَالَفُوا ذَلِكَ، فَقَالُوا: إِذَا تَرَكَ خَالَهُ وَابْنَ عَمِّهِ فَالنَّفَقَةُ عَلَى خَالِهِ وَلَيْسَ عَلَى ابْنِ عَمِّهِ شَيْءٌ فَهَذَا مُخَالَفَةُ نَصِّ الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْخَالَ لَا يَرِثُ مَعَ ابْنِ الْعَمِّ فِي قَوْلِ أَحَدٍ وَلَا يَرِثُ وَحْدَهُ فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالَّذِي احْتَجُّوا بِهِ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَى كُلِّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهِ وَأَمَّا الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ فَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِيهَا فَقَالَ أَكْثَرَهُمْ: هِيَ نَاسِخَةٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهَا مَا نُسِخَ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] الْآيَةَ.
أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] لَأَنَّ النَّاسَ أَقَامُوا بُرْهَةً مِنَ الْإِسْلَامِ إِذَا تُوُفِّيَ الرَّجُلُ، وَخَلَّفَ امْرَأَتَهُ حَامِلًا أَوْصَى لَهَا زَوْجُهَا بِنَفَقَةِ سَنَةٍ وَبِالسُّكْنَى مَا لَمْ تَخْرُجْ فَتَتَزَوَّجُ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَبِالْمِيرَاثِ وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ قَالَ بَعْضُهُمْ نُسِخَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَانْقِضَاءُ عِدَّتِهَا إِذَا وَلَدَتْ وَقَالَ قَوْمٌ: آخِرَ الْأَجَلَيْنِ وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ عَامٌّ بِمَعْنَى الْخَاصِّ أَيْ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] لَسْنَ حَوَامِلَ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَقَالَ قَوْمٌ لَيْسَ فِي هَذَا نَسْخٌ وَإِنَّمَا هُوَ نُقْصَانٌ مِنَ الْحَوْلِ وَقَالَ قَوْمٌ هُمَا مُحْكَمَتَانِ وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهَا مَنْهِيَّةٌ عَنِ الْمَبِيتِ فِي غَيْرِ مَنْزِلِ زَوْجِهَا.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَنَحْنُ نَشْرَحُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَنَذْكُرُ قَائِلِي مَنْ نَعْرِفُ مِنْهُمْ:
فَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ حَتَى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ: لَمْ أُثْبِتْ فِي الْمُصْحَفِ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] وَقَدْ نَسَخَتْهَا {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي إِنِّي لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا عَنْ مَكَانِهِ فَبَيَّنَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَثْبَتَ فِي الْمُصْحَفِ مَا أَخَذَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ جِبْرِيلَ عَلَى ذَلِكَ التَّأْلِيفِ لَمْ يُغَيِّرْ مِنْهُ شَيْئًا.
وَأَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} [البقرة: 240] قَالَ: نَسَخَهَا {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] قَالَ {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240] غَيْرَ إِخْرَاجٍ نَسَخَتْهَا الرُّبُعُ أَوِ الثُّمُنُ وَنَسَخَ الْحَوْلُ الْعِدَّةَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَحَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمُ} [البقرة: 240] الْآيَةَ كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا وَتَرَكَهَا اعْتَدَّتْ مِنْهُ سَنَةً وَيُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ بَعْدَ ذَلِكَ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَانْقِضَاءُ عِدَّتِهَا أَنْ تَضَعَ مَا فِي بَطْنِهَا، وَنَزَلَ {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] فَبَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ الْمِيرَاثَ وَتَرَكَ النَّفَقَةَ وَالْوَصِيَّةَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ عَامٌّ بِمَعْنَى الْخَاصِّ فَقَوْلٌ حَسَنٌ لِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَسَنَذْكُرُ ذَيْنِكَ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ نُسِخَ مِنْهَا الْحَوَامِلُ فَيُحْتَجُّ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ شَاءَ لَاعَنْتُهُ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى نَزَلَتْ بَعْدَ الطُّولَى يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَزَّ {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] نَزَلَتْ بَعْدَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَعِنِّي أَنَّ {وَأُولَاتِ الْأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] نَاسِخَةٌ لِلَّتِي فِي الْبَقَرَةِ أَوْ مُبَيِّنَةٌ لَهَا قَوْلَ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ فَمِنْهُمْ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ آخِرَ الْأَجَلَيْنِ فَحُجَّتُهُ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ بِلَا اخْتِلَافٍ عَنْهُُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّحَابَةِ فِيهِ مُنَازَعَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ أَجْلِ الْخِلَافِ فِيهِ.
كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِي، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقِ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ مَعْقِلٍ، قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَامْرَأَتُهُ حَامِلٌ فَقَالَ: تَعْتَدُّ آخِرَ الْأَجَلَيْنِ فَقِيلَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ أَبَا مَسْعُودٍ الْبَدْرِيَّ يَقُولُ لِتَبْتَغِ لِنَفْسِهَا فَقَالَ: إِنَّ فَرُّوخًا لَا يَعْلَمُ شَيْئًا فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا مَسْعُودٍ فَقَالَ: بَلَى وَأَنَا أَعْلَمُ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَمِمَّنْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ تَعْتَدُّ آخِرَ الْأَجَلَيْنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَقَدْ ذَكَرْنَا مَنْ قَالَ بِغَيْرِ هَذَا مِنَ الصَّحَابَةِ حَتَّى قَالَ عُمَرُ: إِنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا وَزَوْجُهَا عَلَى السَّرِيرِ حَلَّتْ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ لَا تَحِلُّ حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ثُمَّ جَاءَ التَّوْقِيفُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهَا تَحِلُّ إِذَا تُوُفِّيَ زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ ثُمَّ وَلَدَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ.
كَمَا حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يوسُفَ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سُئِلَا عَنِ الْمَرْأَةِ يُتُوُفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آخِرَ الْأَجَلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: إِذَا وَلَدَتْ فَقَدْ حَلَّتْ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي. يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ فَأَرْسَلُوا كُرَيْبًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ وَلَدَتْ سُبَيْعَةُ الْأَسْلَمِيَّةُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهِ فَقَالَ: «قَدْ حَلَلْتِ».
وَقَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ: لَا تَتَزَوَّجُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ دَمِ النِّفَاسِ.
وَكَذَا قَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَإِذَا قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلٍ غَيْرِهِ وَلَا سِيَّمَا وَنَصُّ الْقُرْآنِ {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَقَدْ أَجْمَعَ الْجَمِيعُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ أَنَّ رَجُلًا لَوْ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ امْرَأَتَهُ حَامِلًا فَانْقَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ حَتَّى تَلِدَ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْوِلَادَةُ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَيْسَ فِي هَذَا نَسْخٌ وَإِنَّمَا هُوَ نُقْصَانٌ مِنَ الْحَوْلِ فَحُجَّتُهُ أَنَّ هَذَا مِثْلُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ لِمَا نَقَصَتْ مِنَ الْأَرْبَعِ إِلَى اثْنَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ هَذَا نَسْخًا وَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ حُكْمُهَا أَنْ تَعْتَدَّ سَنَةً إِذَا لَمْ تَخْرُجْ فَإِنْ خَرَجَتْ لَمْ تَمْنَعْ ثُمَّ أُزِيلَ هَذَا وَلَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فَهَذَا هُوَ النَّسْخُ وَلَيْسَ صَلَاةُ الْمُسَافِرِ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ الْمُسَافِرِ بِحَالِهَا، وَهَكَذَا يَقُولُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَقَدْ عُورِضُوا فِي هَذَا بِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَتِمُّ فِي السَّفَرِ فَكَيْفَ تَتِمُّ فِي السَّفَرِ وَهِيَ تَقُولُ فَرْضُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ فَهَذَا مُتَنَاقِضٌ فَأَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُتَنَاقِضٍ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْهَا مَا ذَكَرْنَاهُ وَهِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَحَيْثُ حَلَّتْ فَهِيَ مَعَ أَوْلَادِهَا فَلَيْسَتْ بِمُسَافِرَةٍ وَحُكْمُهَا حُكْمُ مَنْ كَانَ حَاضِرًا فَلِذَلِكَ كَانَتْ تَتِمُّ الصَّلَاةُ إِنْ صَحَّ عَنْهَا الْإِتْمَامُ، وَمِمَّا يَدُلُّكُ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ.
إِنَّ بَكْرَ بْنَ سَهْلٍ حَدَّثَنَا، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يوسُفَ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ قَالَتْ زَيْنَبُ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ، بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ أَوْ غَيْرُهُ فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا ثُمَّ قَالَتْ وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا».
قَالَتْ زَيْنَبُ: وَدَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ ثُمَّ قَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا».
قَالَتْ زَيْنَبُ وَسَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ، تَقُولُ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا أَفَأَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: «لَا» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ».
قَالَ حُمَيْدٌ: فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ وَمَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ قَالَ حُمَيْدٌ: فَقَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسَّ طَيِّبًا وَلَا شَيْئًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَائِرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ فَقَلَّ مَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إِلَّا مَاتَ ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ وَالْمَعَانِي وَاللُّغَةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ فَمِنْ ذَلِكَ: إِيجَابُ الْإِحْدَادِ وَالِامْتِنَاعِ مِنَ الزِّينَةِ وَالْكُحْلِ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا عَلَى خِلَافِ مَا رَوَى إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِالزِّينَةِ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَا يَرَى الْإِحْدَادَ شَيْئًا.
وفيه قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ» فَأَوْجَبَ هَذَا عَلَى كُلِّ امْرَأَةٍ بَالِغَةٍ كَانَتْ أَوْ غَيْرَ بَالِغَةٍ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا أَمَةً كَانَتْ تَحْتَ حُرٍّ أَوْ حُرَّةٍ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ أَوْ مُطْلَقَةٍ وَاحِدَةٍ أَوِ اثْنَتَيْنِ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُطَلَّقْ وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَى الْمَبْتُوتَةِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَدَلَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَى كَافِرَةٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» وَدَلَّ أَيْضًا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَى الْحَامِلِ لِذِكْرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
فأما مَعْنَى تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ فَقَالَ فِيهِ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْعُلَمَاءُ بِمَعَانِي الْعَرَبِ: إِنَّهُنَّ كُنَّ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ لِيُرِيَنَّ أَنَّ مُقَامُهُنَّ حَوْلًا أَهْوَنُ عَلَيْهِنَّ مِنْ تِلْكِ الْبَعْرَةِ الْمَرْمِيَّةِ.
وفيه مِنَ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ قَوْلُهُ تَفْتَضُّ وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْجُلَّةُ تَقْبِصُ وَقَالَ مَعْنَاهُ تَجْعَلُ أَصَابِعَهَا عَلَى الطَّائِرِ كَمَا قُرِئَ: فَقَبَصْتُ قَبْصَةً، فَخَالَفَهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ أَجْمَعُونَ فَقَالُوا: تَفْتَضُّ وَهُوَ عَلَى تَفْسِيرِ مَالِكٍ كَذَا يَجِبُ. كَمَا حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يوسُفَ، قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا، وَسُئِلَ مَا تَفْتَضُّ بِهِ قَالَ: تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَهَا.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: هَذَا مُشْتَقٌّ مِنَ انْفَضَّ الْقَوْمُ إِذَا تَفَرَّقُوا وَزَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7] فَمَعْنَى تَفْتَضُّ بِهِ تَزُولُ بِهِ لِأَنَّهَا لَا تَزُولُ مِنْ مَكَانِهَا إِلَّا بِهَذَا فَقَدْ صَارَتْ تَفْتَضُّ بِهِ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ الْآيَتَانِ مُحْكَمَتَانِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَلَّا تَبِيتَ إِلَّا فِي مَنْزِلِهَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تُقِيمَ سَنَةً كَمَا فِي الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ وَأَيْضًا فَلَيْسَ مُقَامُهَا فِي مَنْزِلِهَا إِجْمَاعًا بَلْ قَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَمَنْ قَالَ إِنَّ عَلَيْهَا الْمُقَامَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وأُمُّ سَلَمَةَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ وَتَابَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فَقَالَ مَالِكٌ: تَزُورُ وَتُقِيمُ بَعْدَ الْعِشَاءِ إِلَى أَنْ يَهْدَأَ النَّاسُ وَلَا تَبِيتُ إِلَّا فِي مَنْزِلِهَا. وَهَذَا قَوْلُ اللَّيْثِ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لَا تَخْرُجُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَا الْمَبْتُوتَةُ مِنْ مَنْزِلِهَا الْبَتَّةَ.
وَمِمَّنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا وَقَالَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ وَتَحُجَّ إِنْ شَاءَتْ وَلَا تُقِيمُ فِي مَنْزِلِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَلَى هَذَا صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ أَخْرَجَ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ زَوْجَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَمَّا قُتِلَ عُمَرُ فَضَمَّهَا إِلَى مَنْزِلِهِ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ هَذَا.
رَوَى الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَلَا عَلَى الْمَبْتُوتَةِ إِقَامَةٌ فِي بَيْتِهَا إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] فَإِنَّمَا عَلَيْهَا الْعِدَّةَ وَلَيْسَ عَلَيْهَا مُقَامٌ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا.
وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ أَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِقَامَةٌ عَائِشَةُ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ يُوجِبُوا الْإِقَامَةَ وَمِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ بِالْآيَةِ وَالْحُجَّةِ لِمُخَالِفِهِمْ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ فَعَلَيْهِنَّ أَنْ يَحْبِسْنَ أَنْفُسَهُنَّ عَنْ كُلِّ الْأَشْيَاءِ إِلَّا مَا خَرَجَ بِدَلِيلٍ وَمِنَ الْحُجَّةِ أَيْضًا تَوْقِيفُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ لِلْفَرِيعَةِ حِينَ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا: «أَقِيمِي فِي مَنْزِلِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ».
وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَزَّ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} [البقرة: 240] مَنْسُوخٌ بِالْحَدِيثِ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْآيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَمِمَّا يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي النَّفَقَةِ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى فَمِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَجَابِرٌ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمِمَّنْ دُونَهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَمِمَّنْ قَالَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ النَّفَقَةُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَخِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ وأَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ.
وفيه قَوْلٌ ثَالِثٌ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ: لَوْ كُنْتُ فَاعِلًا لَجَعَلْتُهَا مِنْ مَالِ ذِي بَطْنِهَا. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ لَا نَفَقَةَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لِمَنْ كَانَتْ تَجِبُ لَهُ النَّفَقَةُ عَلَى الرَّجُلِ قَبْلَ مَوْتِهِ مِنْ أَطْفَالِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَآبَائِهِ الَّذِينَ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ بِإِجْمَاعٍ إِذَا كَانُوا زَمْنَى فُقَرَاءَ فَكَذَا تَجِبُ أَيْضًا فِي الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا. قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ وَالْعِشْرِينَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هِيَ مُحْكَمَةٌ وَاجِبَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هِيَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ قَدْ أُخْرِجَ مِنْهَا شَيْءٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هِيَ مَنْسُوخَةٌ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ السَّادِسَةِ وَالْعِشْرِينَ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236].
فَمِمَّنْ قَالَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُطَلِّقٌ الْمُتْعَةُ لِلْمُطَلَّقَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ قَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ مَدْخُولٍ بِهَا أَوْ غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا مَفْرُوضٍ لَهَا أَوْ غَيْرِ مَفْرُوضٍ لَهَا، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَحَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ قَدْ أُخْرِجَ مِنْهَا شَيْءٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ كَمَا حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لِكُلِّ مُطْلَقَةٍ مَتَاعٌ إِلَّا الَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَهَا صَدَاقٌ وَلَمْ تُمَسَّ فَحَسْبُهَا نِصْفُ مَا فُرِضَ لَهَا. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى النَّدْبِ لَا عَلَى الْحَتْمِ وَالْإِيجَابِ فَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ قَالَ: مَتِّعْ إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أَلَا تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ. فَهَذَا قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ لَا يُجْبِرُ عَلَى الْمُتْعَةِ لِامْرَأَةٍ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ كُلِّهِنَّ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَهُوَ يَرْوَى عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْبِرُ عَلَى الْمُتْعَةِ إِلَّا أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَا يُسَمِّي لَهَا صَدَاقًا فَيُطَلِّقُهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَإِنَّهُ يُجْبَرَ عَلَى تَمْتِيعِهَا وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ بِالنَّسْخِ فِيهَا فَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ.
كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِي، قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْكُوفِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ: كَانَتِ الْمُتْعَةُ وَاجِبَةً لِمَنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا مِنَ النِّسَاءِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ ثُمَّ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] فَهَذَا إِيجَابُ الْمُتْعَةِ، وَالنَّاسِخَةُ لَهَا عِنْدَهُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] الْآيَةَ وَهَذَا لَا يَجِبُ فِيهِ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ لَا تُمَتِّعُوهُنَّ وَلَكِنَّ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ الْبَيِّنَ أَنَّهُ اجْتَزِئَ بِذِكْرِ الْمُتْعَةِ ثَمَّ فَلَمْ تَذْكُرْهَا هُنَا وَلَا سِيَّمَا وَبَعْدَهُ {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241].
فَهَذَا أَوْكَدُ مِنْ مَتِّعُوهُنَّ؛ لِأَنَّ مَتِّعُوهُنَّ قَدْ يَقَعُ عَلَى النَّدْبِ وَذِكْرُهُ التَّمْتِيعَ فِي الْقُرْآنِ مُؤَكِّدٌ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 236] وَكَذَا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ عَلَىَ كُلِّ مُطَلِّقٍ مُتْعَةً إِذَا كَانَ الطَّلَاقُ مِنْ قِبَلِهِ.
فأما تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً فَفِيهِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْفَرِيضَةُ الصَّدَاقُ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: الْفَرْضُ فِي اللُّغَةِ الْإِيجَابُ وَمِنْهُ فَرَضَ الْحَاكِمُ عَلَى فُلَانٍ كَذَا كَمَا قَالَ:
البحر الكامل:
كَانَتْ فَرِيضَةً مَا تَقُولُ كَمَا ** كَانَ الزِّنَاءُ فَرِيضَةَ الرَّجْمِ

وَقَدِ احْتَجَّ قَوْمٌ فِي أَنَّ التَّمْتِيعَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] وَكَذَا {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] وَهَذَا لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فَهُوَ عَلَى غَيْرِهِمْ أَوْجَبُ وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّاسَ جَمِيعًا مَأْمُورُونَ بِأَنْ يَكُونُوا مُحْسِنِينَ مُتَّقِينَ لِأَنَّ مَعْنَى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُحْسِنًا يَجِبُ أَنْ تُحْسِنَ إِلَى نَفْسِكَ بِأَنْ تُؤَدِّيَ فَرَائِضَ اللَّهِ جَلّ وَعَزَّ وَتَجْتَنِبَ مَعَاصِيَهُ فَتَكُونُ مُحْسِنًا إِلَى نَفْسِكَ حَتَّى لَا تَدْخُلَ النَّارَ وَيَجِبُ أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ بِتَرْكِ مَعَاصِيهِ وَالِانْتِهَاءِ إِلَى مَا كَلَّفَكَهُ مِنْ فَرَائِضِهِ فَوَجَبَ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يَكُونُوا مُحْسِنِينَ مُتَّقِينَ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْآيَةِ السَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ مَخْصُوصَةٌ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ السَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ:

قَالَ جَلّ وَعَزَّ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256].
فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَكْرَهَ الْعَرَبَ عَلَى دَيْنِ الْإِسْلَامِ وَقَاتَلَهُمْ وَلَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ إِلَّا بِالْإِسْلَامِ فَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى قَالَ: نَسَخَهَا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: 73] وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُقَاتِلُ أَحَدًا فَأَبَى الْمُشْرِكُونَ إِلَّا قِتَالَهُ فَاسْتَأْذَنَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي قِتَالِهِمْ فَأَذِنَ لَهُ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً وَلَكِنْ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يُكْرَهُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا أَدَّوْا الْجِزْيَةَ وَالَّذِينَ يُكْرَهُونَ أَهْلُ الْأَوْثَانِ فَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: 73] وَمِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ لِهَذَا الْقَوْلِ مَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لِعَجُوزٍ نَصْرَانِيَّةٍ: أَسْلِمِي أَيَّتُهَا الْعَجُوزُ تَسْلَمِي، إِنَّ اللَّهَ جَلّ وَعَزَّ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ، فَقَالَتِ: أَنَا عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ وَأَمُوتُ إِلَى قَرِيبٍ، فَقَالَ عُمَرُ اللَّهُمَّ اشْهَدْ، ثُمَّ تَلَا {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]. وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهَا مَخْصُوصَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
كَمَا قُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، فِي حَدِيثِهِ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ كَانَ فِيهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلّ وَعَزَّ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]. قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْلَى الْأَقْوَالِ لِصِحَّةِ إِسْنَادِهِ وَأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُؤْخَذُ بِالرَّأْيِ فَلَمَّا خَبَّرَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى الْأَقْوَالُ وَأَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مَخْصُوصَةً نَزَلَتْ فِي هَذَا، وَحُكْمُ أَهْلِ الْكِتَابِ كَحُكْمِهِمْ.
فأما دُخُولُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الدِّينِ فَلِلتَّعْرِيفِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا إِكْرَاهَ فِي الْإِسْلَامِ وَفِي ذَلِكَ قَوْلُ آخِرَ يَكُونُ التَّقْدِيرُ لَا إِكْرَاهَ فِي دَيْنِ الْإِسْلَامِ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ عِوَضٌ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مِثْلَ {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج: 20] أَيْ وَجُلُودُهُمْ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةِ وَالْعِشْرِينَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ نَاسِخَةٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ نَزَلَتْ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ غَيْرَ نَاسِخَةٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ عَامَّةٌ.